جنيف - تامر أبو العينين: في السابق, كان الشبان يشيرون إلى بعضهم بعضاً ويقولون هذا خريج آداب القاهرة أو هندسة عين شمس, أو قرأ في الزيتونة أو كان في باب الزوار الجزائرية أو القرويين المغربية.
أما اليوم فقد تغيرت المسميات, واصبحت ألقابهم "شرماوي" أو "جرباوي" أو "ماروكي" للدلالة على الآتين من شرم الشيخ المصرية أو جربة التونسية أو من المغرب, أي من المناطق التي يتوافد عليها السواح الأجانب بكثرة في تلك الدول.
هؤلاء هم الشبان العرب, الذين تراهم الآن بكثرة في المدن السويسرية الكبرى. وجاءت الغالبية العظمى منهم من طريق واحد, يصفونه قائلين: "تعرفنا عليها أثناء عطلتها, واتفقنا ان نأتي هنا, نحقق احلامنا وطموحاتنا", وهي الجملة التي تبدأ بها غالبيتهم الحديث عن قصة القدوم إلى سويسرا. "هي" الزوجة السويسرية التي يحرج البعض الحديث عنها, بل لا يريد الخوض في التفاصيل ويكتفي بالإشارة إليها بـ "هي".
ارتفعت نسبة الشباب الآتين من مصر وتونس والمغرب والجزائر إلى سويسرا في شكل ملحوظ من طريق الزواج السياحي. لكل منهم قصة وفي مخيلتهم أحلام وطموحات. أما الواقع فيختلف تماماً, فبعد وصولهم يشعر بعضهم وكأنه أمام حاجز منيع, والبعض الآخر بات على قناعة بأنه تحول إلى انسان فاشل, بينما يعتبر آخرون أن مجرد وجودهم في أوروبا هو في حد ذاته نجاح, ولا يهم كيف يعيشون أو ماذا سيفعلون.
الشباب الذين التقتهم ''الحياة'' في جنيف.
وجدوا أنفسهم في مواجهة واقع يختلف تماماً عن الصورة التي رسموها في خيالهم عن الحياة في سويسرا. فغالبيتهم لم تتصور أن البطالة متفشية في هذا الشكل, ولم يتوقعوا ان يجدوا صعوبات في التأقلم مع المجتمع, أو أن هذا المجتمع الجديد سينظر إليهم نظرة فوقية, كأنهم دخلاء لا هم لهم سوى البحث عن النساء أو مزاحمتهم في أعمالهم.
أولى الصعوبات التي تصادف اولئك الشبان هي العثور على عمل. الشرماوية مثلا يعتقدون أن ما تعلموه في فنادق الغردقة وشرم الشيخ كاف للعمل مباشرة في أمكان مشابهة في سويسرا. لكن يبرز عائق اللغة, إذ يجب عليهم التحادث إما بالالمانية لو اقاموا في شرق سويسرا أو الفرنسية في غربها أو الايطالية في جنوبها. ثم يأتي المستوى المهني غير المقبول. فغالبتيهم امتهن العمل في الفنادق والمطاعم في بلادهم من دون دراسة أو خبرة كافية. وهذا العائق هو الذي يقف ايضا أمام الجرباوية والماروكية من أبناء شمال افريقيا الذين يجيدون الفرنسية.
يقول سعد الشرماوي: "أتيت إلى سويسرا قبل عامين, وكنت مستعداً للعمل منذ يوم وصولي, وعندما بدأت أول جولة بحث في المطاعم والمقاهي, أصبت بالصدمة, كنت أعتقد أنني أجيد الانكليزية, ولكنني اكتشفت أن من أتحدث معهم يفهمونني بصعوبة, وعندما يتيقنون أنني أبحث عن عمل, يديرون لي ظهورهم آسفين, بل ويرفضون حتى مجرد الحديث معي".
تيقن هذا الشرماوي بأنه من دون اتقان اللغة لن يتمكن من العثور على أي عمل, ولكن المشكلة الجديدة هي أنه لا يملك مصاريف تعليم اللغة. و"هي" تكبدت الكثير من المال لتحضره إلى سويسرا, على أمل أن يعمل ويسدد لها ما دفعته.
ويضيف سعد: "كان علي أن أدرس اللغة بمفردي أو بمساعدة آخرين, كل يوم كلمة أو جملة من المفردات التي احتاجها في العمل, و"هي" كانت تعمل, للإنفاق على البيت وآخذ منها مصروفي إذا أردت الخروج بمفردي, وبعد 6 أشهر شعرت بالمهانة الشديدة, رأيت أحلامي تنهار أمام عيني, وبدأت أحس أنها بدأت تفقد الامل في حصولي على عمل".
اعلانات الوظائف في الصحف تطلب سويسريين أو أجانب يحملون إقامات دائمة. أما الجدد فلا فرصة لهم.
والنتيجة, أن سعد الشرماوي لم يعمل في سويسرا منذ أن حط قدميه فوق ترابها قبل عامين, وأن يتعلم مهنة أوحرفة أمر صعب لأنها غالية و"هي" ليست مستعدة لدفع أية مبالغ أخرى.
يقول فاضل (32 عاماً): "كنت أريد أن أعمل في مصرف, وفرحت عندما تعرفت "إليها" وعرفت أنها سويسرية, أي من بلاد المصارف, وعندما أتيت اكتشفت أن شهادتي غير معترف بها هنا وليست عندي أي خبرة عملية, وبعد لف ودوران أشتغل الآن عامل نظافة. لا أستطيع أن اتذمر, فـ "هي" لا تعمل, وكل راتبي لا يتجاوز 2600 دولار, يكفينا بالكاد. إذا بقي معي 100 دولار حتى نهاية الشهر أكون في قمة السعادة". ثم يصمت ويشرد بعينيه بعيداً ليلتفت إلي متسائلا: "إلهذا جئت إلى هنا؟ لا استطيع العودة, فكلهم سينظرون إلي على أنني فاشل, ولا استطيع أن ابقى هكذا طول العمر".
وعندما جاء عبد القادر (30 عاما) كان يعتقد أنه سيحقق المستحيل, حاول طرق جميع الأبواب لكن بلا فائدة, وكل ما تمكن من العثور عليه هو أعمال بسيطة ومتفرقة غير ثابتة, فقرر أن يستأثر لنفسه بالقليل الذي يربحه, وتقلصت طموحاته في الحصول على جينز جديد وتسريحة شعر حديثة من حين إلى آخر وسهرة في ديسكو كلما اتيحت الفرصة, ويقول: "لا بد أن استمتع بالحياة وأعيش يومي كيفما يأتي, فلم آت إلى الغرب كي أقبع في البيت أو ألهث بحثاً عن عمل ثم اسمع كلمات الاحباط واليأس في كل مكان".
أشرف (28 عاماً) مثال آخر, يقول: "الإيقاع سريع جداً, وهناك حرص دائم على الالتزام والدقة ما يشكل نوعاً من الضغط, ولكنني يجب أن أتحمل لأنني أتيت لهدف معين ولا بد من تحقيقه". رفض أشرف الخوض في خصوصويات حياته, وفضل الحديث عن أفكاره وطموحاته, فهو هنا ليتعلم الفندقية استعداداً للعودة إلى بلاده مرة أخرى وتطبيق ما تعلمه. فالمشاريع السياحية كثيرة, وهو واثق بأن الاستفادة من الخبرة الأجنبية مع بعض المال بداية طيبة في بلاده. فهو لا يفكر في البقاء في سويسرا لوقت طويل, فلا عادات المجتمع وتقاليده تعجبه, ولا اسلوب الأوروبيين في التعامل.
ويعتبر منصف الجرباوي ان "الأوروبيين عنصريون ويكرهوننا كعرب. لا يريدوننا أن نعمل ونربح أموالاً, يظنون أننا جميعاً اصوليون وارهابيون, عانيت كثيراً منذ أن جئت إلى هنا قبل 3 سنوات, لم أجد سوى أحقر الأعمال التي لا يقبل فيها ابناء البلاد".
وصل هؤلاء الشباب إلى مرحلة صعبة لأنهم شعروا بأنهم ملفوظون من المجتمعات الأصلية التي لم توفر لهم أي شيء, والجديدة التي اعتقدوا أنها جنتهم على الأرض. فخسروا ثقتهم بأنفسهم, وراحوا يتخبطون في شكل واضح.
عزيز شرماوي (30 عاماً), مر بتلك التجربة ولم يجد بعد أكثر من عامين من البطالة سوى حل واحد هو الهروب إلى ادمان الكحول وحياة الليل. و"هي" لم تعد تتحمل الوضع, وقالت: "تحملت عبء البيت وحدي منذ أن احضرته إلى سويسرا وحاولت أن أشعره دائماً بأنها ازمة وستمر, ويجب أن يتحمل, فهو على الأقل يعيش الآن في بيئة نظيفة ولا يعاني من تلوث أو مواصلات مزدحمة أو تغذية سيئة, فرفض نصائحي بقبول أي عمل, وبدأ يتعرف الى الكحول والسهر المتواصل, حتى اصبحت حياتنا معاً شبه مستحيلة".
هذا لجأ إلى الكحول, وآخر اتجه إلى السرقة والنصب والاحتيال, وثالث بدأ يبحث عن أي طريق للربح السريع. هي نماذج من يصاب بالاحباط واليأس من رؤية أحلامه تتلاشى أمام عينيه. كانوا يحلمون بحياة رغدة سعيدة هانئة فلم يجدوها, فأدى بهم اليأس المطلق إلى اللامبالاة, وهو ما يخشى منه الكثيرون, ويبحثون دائماً عمن يتحدث إليهم ويبث في نفوسهم بصيصاً من الأمل.
وعلى رغم كل هذه التجارب الفاشلة, قرر عمرو زهران (28 عاماً) الا يفقد الامل, وقال: "تحملت الكثير في حياتي واشتغلت في اعمال مختلفة قبل رحيلي. أتيت إلى هنا لأصبح رجل أعمال, وغادرت شرم الشيخ لهذا الهدف. صحيح أنني لم أعمل منذ عام, ولكن ستأتي الفرصة بلا شك, وسأعمل وأوفر المال اللازم لأعود به إلى بلادي مرة أخرى, فالحياة هنا لا تطاق, والاوروبيون منافقون".
أما مناصرية (34 عاماً) فيقول: "كلما ذهبت إلى الجزائر وفكرت في الاستقرار, أرى الجميع يتهافتون على السفر, فأقول لنفسي لا فارق بين هنا وهناك فلأعد إلى سويسرا أفضل, عسى أن أجد عملاً".
والملاحظ أن جميع الشباب الذين تحدثت إليهم "الحياة" يلقون باللائمة على المجتمعات الغربية لأنها لا تقبل بهم, ولم يفكروا في أنهم أساءوا الاختيار في الخروج قبل أن يعرف كل واحد قدراته, واعتبروا أن "هي" المخرج الوحيد!