بعدما أقدمت كل من بريطانيا وأوستراليا على طرد مندوبي الموساد لديهما، يسود تخوّف في إسرائيل من أن تقدم ألمانيا وفرنسا على خطوات مشابهة وربما أشدّ منها، خصوصاً بعد اعتقال بولندا أحد المشتبه في مشاركتهم باغتيال محمود المبحوح
محمد بدير
لا تكاد إسرائيل تمنّي نفسها بأفول تداعيات الفضيحة التي توّرطت فيها جراء جريمة اغتيال القيادي في حركة حماس، محمود المبحوح، في دبي قبل ستة أشهر، حتى تصطدم بفصل جديد من هذه التداعيات، كان آخرها اعتقال السلطات البولندية أحد المشتبه في مشاركتهم في العملية.
ولقد وصفت مجلة «دير شبيغل» الألمانية نبأ اعتقال أوري برودتسكي، الذي كُشف عنه السبت، بـ«الورطة الدبلوماسية» الجديدة بالنسبة إلى إسرائيل، وخصوصاً أن الأمر عالق بين اثنتين من الدول الأكثر صداقةً لإسرائيل. وفي تفاصيل القضية، فإن اعتقال برودتسكي في الرابع من حزيران الجاري، بُعيد هبوطه في مطار وارسو، جاء تتويجاً لمطاردة دولية أدارتها الشرطة الفدرالية الألمانية، التي تشتبه في أنه قدّم المساعدة إلى أحد المشاركين في اغتيال المبحوح، وهو منتحلٌ اسم ميخائيل بودنهايمر، في الحصول على جواز سفر ألماني. وبحسب «دير شبيغل»، فإن الشرطة الفدرالية الألمانية للشؤون الجنائية (BKA) أصدرت أمر اعتقال دوليّاً بحقّ برودتسكي في أعقاب تحقيق طويل بدأته في أعقاب كشف شرطة دبي ملابسات اغتيال المبحوح، ونشرها أسماء 33 شخصاً وصورهم، قالت إنهم شاركوا فيه، يحمل معظمهم جوازات سفر أوروبية مزوّرة.
أحد هؤلاء الأشخاص كان ميخائيل بودنهايمر، وهو حاخام إسرائيلي أظهر التحقيق الألماني أن شخصاً، يرجّح أن يكون عميلاً للموساد، انتحل اسمه، وتقدّم في حزيران 2009 من مكتب وزارة الداخلية في ولاية كولونيا بطلب استصدار جواز سفر ألماني بناءً على كون والديه من أصول ألمانية. وبرغم أن إجراءات الحصول على الجنسية الألمانية تستغرق أسابيع، فإنّ معاملة بودنهايمر جرت في غضون يومين، حصل في إثرهما على جواز سفر تبيّن لاحقاً أنه استُخدم في عملية اغتيال المبحوح. وتشتبه الشرطة الألمانية في أن برودتسكي رافق منتحل شخصية بودنهايمر إلى وزارة الداخلية، وساعده على إجراء معاملات استصدار جواز السفر الجديد. ووفقاً لتقرير «دير شبيغل»، فإنّ السلطات الألمانية التي تقدمت بطلب رسمي إلى وارسو لتسلّم برودتسكي تعتزم تقديمه للمحاكمة بناءً على اتهامه بالمشاركة في تزييف جواز سفر، وبممارسة نشاط في إطار منظمة استخبارية أجنبية على الأراضي الألمانية.
ورغم التكتّم الذي حرصت السلطات البولندية على إحاطة الحدث به، فإنها عادت وأكّدت في أعقاب تقرير «دير شبيغل»، على لسان الناطقة باسم النيابة العامة، مونيكا لافندوفسكي، أمر اعتقال برودتسكي، من دون أن تدلي بأيّ معلومات عن أسباب ذلك. وأشارت لافندوفسكي إلى أن المعتقل الإسرائيلي مثَل أمام قاضٍ في السادس من الجاري، وجرى تمديد اعتقاله لمدة 40 يوماً.
اعتقال برودتسكي في مطار وارسو جاء تتويجاً لمطاردة دوليّة بقيادة ألمانيةإلا أنّ ما تكتّمت عليه السلطات البولندية، تولّت النيابة الألمانية الكشف عنه رسمياً، عبر إعلانها أمس أن إسرائيلياً يُشتبه في انتمائه إلى الموساد اعتُقل في بولندا بناءً على طلب من ألمانيا. وقال متحدث باسم النيابة الفدرالية الألمانية إن برودتسكي «اعتُقل في وارسو، ويُشتبه في أنه متورط في الحصول على جواز سفر (ألماني) بصورة غير مشروعة». وعن مسألة تسليمه إلى السلطات الألمانية قال المتحدث: «الكرة الآن في ملعب البولنديّين لاتخاذ قرار تسليمه لألمانيا»، مشيراً «إلى إمكان أن يستغرق الأمر أسابيع، وخصوصاً إذا رفض برودتسكي الموافقة على تسليمه».
وأقرّت إسرائيل في وقت لاحق باعتقال برودتسكي من دون أن تقدّم أيّ تفاصيل خاصة بشأنه. وقالت وزارة الخارجية الإسرائيلية إنّ القنصل في وارسو التقى الإسرائيلي المعتقل، وقدّم إليه المساعدة المطلوبة «مثلما تجري مساعدة أيّ إسرائيلي يواجه ضائقة في خارج البلاد».
وأفادت صحيفة «هآرتس» أمس أنّ إسرائيل تمارس ضغوطاً على بولندا كي لا تسلّم برودتسكي إلى ألمانيا، تحسّباً من محاكمته، أو ربما تسليمه إلى دبي. ونقلت الصحيفة عن مصدر بولندي قوله إنه لم يُتّخَذ قرار بعد بشأن تسليم برودتسكي إلى ألمانيا. وأشارت الصحيفة إلى وجود اتفاقية تسليم ثنائية بين بولندا وألمانيا، فضلاً عن وجود بنود في الاتفاقيات الأوروبية العامة تنصّ على هذا المعنى.
وبناءً على ذلك، رأت تقارير إسرائيلية أمس أن تسليم برودتسكي إلى ألمانيا «يكاد يكون حقيقة منتهية». إلا أنه بالرغم من ذلك، دعا وزراء في الحكومة الإسرائيلية إلى بذل كل جهد ممكن للحؤول دون حصول ذلك، وإعادته إلى إسرائيل.
من جهتها، أعربت دبي على لسان قائد شرطتها، ضاحي خلفان تميم، عدم وجود توجّه لديها لطلب تسليمها برودتسكي، رغم أن جريمة اغتيال المبحوح وقعت ضمن أراضيها. وقال خلفان إن برودتسكي «لم يكن مطلوباً مباشرةً من شرطة دبي، فهو ارتكب الجرم داخل ألمانيا، ولذلك من الطبيعي أن تجرى محاكمته هناك». أضاف: «المهم بالنسبة إلينا أن يلقى عقابه على عدم احترامه قوانين الدولة».
وتناولت الصحافة الإسرائيلية الورطة الجديدة لتل أبيب، والأضرار التي ستخلّفها على صعيد هيبة الاستخبارات الإسرائيلية، والمكانة الدولية لإسرائيل. ورأى محلل الشؤون الأمنية في موقع «يديعوت أحرونوت»، رون بن يشاي، أنّ اعتقال برودتسكي، حتى لو سُلّم إلى ألمانيا، وإدانته هناك، لن يكونا «نهاية العالم، لأنه سيخرج من ذلك بمساعدة بعض رجال القانون المخضرمين، وبعض الأصدقاء الباقين لنا في الساحة الدولية». ورأى بن يشاي أنّ «الضرر الرئيسي الذي ستسبّبه القضية هو المزيد من التدهور في المكانة الدوليّة لإسرائيل. فقضية المبحوح وقضية القافلة البحرية إلى غزة لم تؤدّيا فقط إلى انحدار صورة إسرائيل كدولة عنيفة ومعتدية على القوانين نحو قعر خطير، بل أيضاً مسّتا بهيبة الموساد وبقية الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، المعروفة بقدرتها على العمل وتحقيق الإنجازات في المعارك السرية ضد أعداء الدولة ومواطنيها». واستطرد الكاتب موضحاً «أنّ الهيبة المرعبة أحياناً للموساد تعدّ من وسائل العمل المهمّة بالنسبة إليه، ولا تقل أهمية عنها هيبة الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية، بوصفها إحدى الأدوات المهمّة لإسرائيل في الحصول على دعم العالم في أيّ عملية تطلب الضوء الأخضر لتنفيذها، بالاستناد إلى المعلومات التي تؤمّنها الاستخبارات العسكرية والموساد والشاباك». وبناءً على ذلك، رأى الكاتب أن تعرّض الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية لضربة تلو أخرى من شأنه أن يلحق ضرراً بأمن إسرائيل، مضيفاً «ربما آن الأوان لأن تطلب إسرائيل بطريقة سرية مساعدة الحكومات والأجهزة الاستخبارية في العثور على حل يمنع حصول تورطات في المستقبل».
يذكر أن اعتقال أوري برودتسكي يُعدّ الحالة الأولى التي يُلقى فيها القبض على إسرائيلي يُشتبه في عضويته في الموساد جرّاء إصدار مذكّرة توقيف دولية بحقه. ففي الحالات السابقة، التي جرى فيها اعتقال عملاء من الموساد، حصل ذلك نتيجة لضبطهم بصورة مباشرة خلال مشاركتهم في عملية استخبارية أو تنفيذية. وبحسب تقارير إسرائيلية، سُجّلت منذ ستينيات القرن الماضي عشرات الحالات التي وقع فيها أفراد من الموساد في قبضة سلطاتٍ محلية لبلدان كانوا ينشطون فيها في أرجاء مختلفة من العالم، من دون أن تحظى كل هذه الحالات بتغطية إعلامية. وتعدّ حادثة اغتيال النادل المغربي، أحمد بوشيكي، في أوسلو عام 1973، التي أدّت إلى اعتقال ومحاكمة وإدانة ستّة من أعضاء الموساد الذين شاركوا في العملية، وكذلك محاولة اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، خالد مشعل، في الأردن عام 1997، التي أدت إلى اعتقال ضابطين من الخلية المنفّذة ومبادلتهما لاحقاً بمؤسس الحركة الشيخ أحمد ياسين، من أبرز حالات الفشل العملياتي للموساد، التي أدّت إلى وقوع عملائه في قبضة الاعتقال.