يبلغ عدد الفلسطينيين بحسب تقديرات السفارة الفلسطينية في ألمانيا ثمانين ألفاً . ويبلغ بحسب الإحصاءات التي قامت بها الجالية الفلسطينية ثلاثين ألفاً . هذا التفاوت الكبير يبين لنا أن هنالك مشكلة أرقام. ومن المستحيل عملياً معرفة العدد الصحيح للفلسطينيين المقيمين في ألمانيا. وسبب ذلك عدم وجود مصطلح الجنسية الفلسطينية في الإحصاءات الرسمية.كما إنه من المستحيل إدراج هذا المصطلح في سجلات الدوائر الرسمية, طالما أن الفلسطينيين يحملون وثائق سفر من بلدان مختلفة،ولا دولة لهم. وإصدار جوازات سفر فلسطينية من قبل السلطة الوطنية في الأراضي المحتلة لم يغير شيئاً في هذا الوضع لكون ألمانيا لم تعترف بعد بالجنسية الفلسطينية. لهذه الأسباب كان الفلسطينيون يسجلون حتى أواخر عام 1984 في خانة الشتاتنلوس،أي من دون دولة.
بعدها أصدرت وزارة الداخلية الاتحادية تعميماً بتاريخ 12 كانون الأول /ديسمبر 1984 ينص على تسجيلهم تحت خانة "جنسية غير معلومة"(Ungeklart) شمل هذا التعميم جميع الذين لا يحوزون على جوازات سفر وطنية, أي جميع الذين يحملون وثائق سفر أو جوازات مرور (Laisser-Passer) وجميع الذين ليس لديهم جوازات سفر لأنهم أتلفوها أو أخفوها أمام السلطات قبل تقديم طلب اللجوء السياسي. لذلك يتوجب علينا استخدام مؤشرات مختلفة تاريخية وقانونية للتوصل إلى نتيجة قريبة من الواقع.
كان عدد الشتاتنلوس في الستينات قليلا جداً إذ بلغ عام 1969 ستة وتسعين شخصاً أغلبيتهم الساحقة من بلدان البلطيق في الاتحاد السوفياتي سابقاً, أما البقية, فتكونت من بعض الفلسطينيين من لبنان. بعد أيلول / سبتمبر الأسود عام 1970, ارتفع عدد الشتاتنلوس وأصبحت أغلبيتهم من فلسطينيي لبنان, واستمر هذا الوضع حتى عام 1976, حين ظهرت فئات جديدة تحت هذه التسمية وهي مجموعات الأكراد المحلميين من لبنان وأهالي القرى السبع الذين يحملون وثائق فلسطينية صادرة عن السلطات اللبنانية. والمحلميون ليسوا بأكراد كما يدعي اللبنانيون بل محلميون لنطقهم بلهجة عربية تدعى بالمحلمية. وقد أتى أغلبهم إلى لبنان في الأربعينات من قرى تقع في جنوب شرق تركيا على الطريق المؤدية من مدينة ماردين إلى مدينة مديات. أما سكان القرى السبع فهم لبنانيون يختلفون عن بقية الفلسطينيين بمذهبهم الشيعي ولهجتهم الجنوبية, ضمت قراهم السبع إلى منطقة الانتداب الإنكليزي عام 1924 ولجأوا إلى لبنان مع بقية الفلسطينيين عام 1948 على إثر إنشاء دولة إسرائيل. وحصل هؤلاء مثل الفلسطينيين على وثيقة سفر لبنانية, في حين أعطيت للمحلميين وثائق مرور. وظلت هذه المجموعات الأربع تكوّن فئة الشتاتنلوس حتى أواخر عام 1984, إذ إن التعتيم المذكور أعلاه أدّى إلى فرز المجموعة الآتية من الاتحاد السوفياتي (السابق) التي ظلت تدعى بشتاتنلوس عن البقية التي أصبحت تدعى بـ Ungeklart) ). وتسمح لنا هذه العملية لأول مرة بتقدير عدد اللاجئين من لبنان غير اللبنانيين بشكل دقيق. فمقارنة أعداد الفئتين للسنوات اللاحقة تظهر أن نسبة اللاجئين من لبنان تبلغ 95% من مجموع الفئتين وهذا ينطبق بالتـالي على فئة الشـتاتنلوس الســابقة بين الأعوام 1970- 1985. بعد ذلك يســهل الأمر لأن فئـــة ال "Ungeklart" ضمت فقط لاجئين من لبنان وذلك حتى عام 1992. يتوزع هؤلاء اللاجئون، كما أشرنا، على ثلاث مجموعات: الفلسطينيون, المحلميون والقرى السبع. فما هو حجم كل مجموعة؟
لم تميز السلطات الألمانية بين المجموعات الثلاث واعتبرتهم ضمناً أنهم جميعاً فلسطينيون، وتدل على ذلك أدبيات الدولة نفسها التي اعتبرت شتاتنلوس مرادفاً لفلسطيني. أما في بداية الثمانينات فقد بدأ البعض ينتبه إلى وجود أكراد والمقصود محلميين بين هذه الفئة. وحتى اليوم لا يأبه أحد بأهالي القرى السبع. في كل الأحوال لا تساعد الإحصاءات الرسمية على حل هذه المسألة. وكل ما يتوافر لدينا في هذا الشأن هو البحث الميداني الذي قمت به عام 1988. ففي أيلول / سبتمبر 1987 أصدرت وزارة داخلية ولاية برلين مرسوماً منحت بموجبه قسماً كبيراً من لاجئي لبنان إقامات عادية ساوت وضعهم بوضع العمال الأجانب فأصبحوا بذلك تحت رعاية المسؤولة عن الأجانب المعينة من الدولة. ورغبة منها بمعرفة الوضع الاجتماعي لهؤلاء الناس كلفتني عام 1988. وكنت وقتها مديراً لمكتب الاستشارة للعرب, بوضع دراسات في هذا الشأن فأجريت أول بحث ميداني علمي بين اللاجئين من لبنان ضمت العينة التي اخترتها إضافة إلى اللبنانيين 534 شخصاً ينتمون إلى فئة الشتاتنلوس وال"Ungeklart" وأظهر البحث أن هذا العدد يشمل 233 فلسطينياً أي 43,63%, 199 محلمياً أي 37،26% و102 من القرى السبع أي 19،1 % , وفي وسعنا اعتماد هذه النسبة لجميع ألمانيا مع التحفظات الناتجة عن هذا العرض وخصوصاً تلك المتعلقة بالتطور الآتي ذكره.
منذ عام1992 أخذت تؤم ألمانيا أعداد متزايدة من اللاجئين تدعي أنها من فلسطينيي لبنان وأنها ملاحقة من قبل السلطات اللبنانية, بينما هي فعلاً بأغلبيتها من أكراد تركيا. ويعود ذلك إلى أن الدولة اللبنانية التي بدأت تدريجياً في ذلك العام ببسط سيطرتها على الأراضي اللبنانية شرعت بالتضييق على الفلسطينيين, ولذا أدخلت في هذا السياق تأشيرة العودة في أيلول / سبتمبر عام1994 لعرقلة عودتهم؛ إذ إن جميع المتواجدين خارج البلاد قبل هذا التاريخ لا يحملون هذه التأشيرة في جوازاتهم وعليهم الحصول على تأشيرة دخول, وامتنعت السفارة اللبنانية في بون عملياً عن إعطائها لهم. وقد ألغى الرئيس اللبناني إميل لحود هذه التأشيرات بعد وصوله إلى الرئاسة بأشهر, وذلك في شهر كانون الثاني /يناير من عام 1999, كما صعبت الدولة اللبنانية أيضاً شروط الحصول على وثائق سفر من سفاراتها في الخارج ونتيجة لذلك لم يعد في وسع السلطات الألمانية تسفير الفلسطينيين بعد رفض طلبات لجوئهم فهي مرغمة على إبقائهم في أراضيها, ويحاول أكراد تركيا الاستفادة من هذا الوضع فيعلنون بعد إتلاف جوازات سفرهم أنهم فلسطينيون من لبنان ليضمنوا بقاءهم في ألمانيا وقد انفضح الأمر أخيراً في شهر آذار /مارس2000 حيث تم كشف 500 تركي يدعون أنهم من لبنان وهم فعلاً من تركيا ويتقاضون منذ سنوات عدة المساعدات الاجتماعية, وتقدر الأضرار بعشرات الملايين من الماركات. لم تعد فئة "Ungeklart" تضم لاجئي لبنان فحسب بل أيضاً أتراكاً مما يفقدنا الأمل نهائياً بالتوصل إلى تقدير لعدد الفلسطينيين في ألمانيا. هذا الخلل سيزول على الأرجح مستقبلاً لسببين: الأول هو تزايد عدد الفلسطينيين من دون إقامة شرعية منذ عام 1995 وعددهم بالطبع مجهول لعدم تسجيلهم في مكان، لكنه يقابل ربما إلى حد ما عدد الأتراك، أما السبب الثاني فهو معالجة التزوير التركي المتوقعة من قبل السلطات الألمانية بعد فضيحة بريمن. لحسن الحظ بادرت السلطات الألمانية منذ انهيار الكتلة الاشتراكية إلى إدراج مجهولي الهوية الآتين من البلدان التابعة لها في خانة مستقلة. لولا ذلك لاستحال نهائياً تقديم تقدير ولو تقريبي لأعداد الفلسطينيين في ألمانيا.[SIZE=5]
--------------------------------------------------------------------------------
[لتقدير عدد الفلسطينيين يجب إضافة عدد الذين حصلوا على الجنسية الألمانية وبالتالي شطبوا من سجلات الأجانب. سنستند هنا على معطيات ولاية برلين ونعّممها على بقية ألمانيا وسنأخذ إحصاءات عام 1993 لأن وجود الأتراك فيها لم يكن ذا أهمية بعــد, في هذا العـام كان 10636 شــخصاً مســجلين تحت فئـة شــتاتنلوس
"Ungeklart” وحتى هذا العام تم تجنيس 6078 شخصاً من هذه الفئة, أي إن 16714 شخصاً من لاجئي لبنان غير اللبنانيين كان مقيماً عام 1993 في برلين. 37 % منهم يحملون الجنسية الألمانية, إذا اعتمدنا هذه النسبة على مستوى ألمانيا نصل في عام 1997 إلى النتائج الآتية:عدد الشتاتنلوس وال" Ungeklart" 70516 شخصاً يضاف إليهم نسبة 37% من المجنسين أي 41424 شخصاً فيصبح المجموع 111940 شخصاً, نسبة الفلسطينيين بينهم كما رأينا 44% أي 49249 شخصاً, يمكننا الاستنتاج مما سبق أن عدد الفلسطينيين يقع على الأرجح بين 50 و55 ألف شخص وعام 2000 حوالى 60 ألف شخص.
اللجوء إلى ألمانيا:
بدأت هجرة الفلسطينيين إلى ألمانيا في الستينات حين أبرمت شركات ألمانية عقود عمل مع فلسطينيين من الضفة الغربية والأردن وقامت بتأمين مجيئهم إلى بلادها, ثم لحق بهؤلاء بعض الطلاب الذين اكتشفوا أن إمكان العمل لتمويل الدراسة متوافرة في تلك البلاد, ولا نستطيع معرفة حجم هذه المجموعة لأن أفرادها حملوا جميعاً جوازات سفر أردنية, لكن من المؤكد أن العدد كان ضئيلاً, وفي أواخر الستينات ظهر لأول مرة فلسطينيو لبنان في برلين حيث أتوا بشكل غير شرعي وعاشوا حسب المصطلح المعتمد" بالأسود" واشتغلوا أيضاً بالأسود عن طريق ما يسمى مكاتب العبيد التي كانت تتقاضى حتى 60% من أجرهم. وكان دخولهم غير الشرعي إلى برلين الغربية ممكناً نظراً إلى وضع المدينة الدولية, فحسب اتفاق بوتسدام لعام 1945 بعد نهاية الحرب العالمية الثانية, وضعت مدينة برلين تحت سلطة الحلفاء مباشرة ولم يكن مسموحاً للبوليس الألماني الغربي مراقبة الحدود مع برلين الشرقية, فكان الآتون من لبنان يطيرون إلى مطار شونفلد في برلين الشرقية حيث يحصلون على تأشيرة ترانزيت إلى برلين الغربية التي يدخلونها من دون رقيب, وقد سلك هذا الطريق لاحقاً خلال الحرب الأهلية ثلاثة أرباع اللاجئين من لبنان إلى ألمانيا, عام 1970 وعلى إثر أحداث أيلول لجأ الكثير من الفلسطينيين الأردنيين إلى ألمانيا, وقدموا طلبات لجوء سياسي, فانتبه فلسطينيو لبنان إلى هذا الأسلوب وأخذوا به. ويمكننا القول إن بين الأعوام 1970 و1995 لم يحاول أي فلسطيني البقاء بشكل غير شرعي في ألمانيا, بل إنهم قدموا جميعاً طلبات لجوء سياسي لما يرافق ذلك من تحسين لوضعهم الاجتماعي.
إن طابع الوجود الفلسطيني في ألمانيا هو اللجوء وليس الهجرة, وذلك ينطبق أيضاً على الوجود اللبناني وعلى جميع الآتين من لبنان, واللجوء إلى ألمانيا مرتبط بشكل وثيق بأحداث لبنان, فإذا أخذنا أعداد الشتاتنلوس كمؤشر, نلاحظ أن العدد قفز من 503 عام 1973 إلى 1118 عام 1974, وذلك نتيجة الصدامات التي حصلت في تشرين الأول/ أكتوبر 1973 بين الجيش اللبناني والمقاومة الفلسطينية, وتدمير إسرائيل لمخيم النبطية 1974, ثم تراجع العدد إلى 718 عام 1975 ليرتفع مجدداً عام 1976 نتيجة بدء الحرب الأهلية فيبلغ 1026, واستمر العدد في الارتفاع فأصبح 3157 عام 1979, ثم تراجع بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 ليبلغ عام 1983 نحو 1398 شخصاً لاعتقاد الكثيرين أن الحرب الأهلية انتهت, حتى إن البعض عاد من ألمانيا إلى لبنان.
في العام اللاحق, عادت الحرب وانشق الجيش في 6 شباط / فبراير, وعام 1985 بدأت حرب المخيمات فارتفع العدد إلى 2925, وعام 1986 عندما كانت حرب المخيمات على أشدها بلغ العدد أقصاه إذ وصل إلى 8199 شخصاً.
إن عدد اللاجئون الذين أتوا إلى برلين في هاتين السنتين أكبر بكثير من هذه الأعداد, لكنهم لم يبقوا في المدينة, فبسبب التضييق على اللاجئين من خلال قوانين اللجوء لعامي 1982 و1985 فضّل قسم كبير منهم متابعة سفره إلى البلدان الإسكندنافية وهولندا, حتى إن قسماً من المقيمين في ألمانيا اختار مغادرتها واللجوء إلى تلك البلدان.
كان اللاجئون الآتون من لبنان يصلون إلى برلين الشرقية ويأخذون تأشيرة ترانزيت إلى برلين الغربية, حيث يستقلون القطار إلى هولندا أو الدانمارك من دون تقديم طلب لجوء في برلين, وكان آخرون يمرون من برلين الشرقية ترانزيت إلى السويد ويستقلون القطار إلى مدينة روستك الساحلية ومنها يتابعون سفرهم بالباخرة إلى مرفأ مالمو السويدي, وهكذا أصبحت العائلات الفلسطينية منتشرة من مخيمات لبنان إلى ألمانيا ثم الدانمارك والسويد.
في البحث الميداني الذي قمت به عام 1995 في برلين, تبين لي أن ثلاثة أرباع العائلات لها أقارب في هذين البلدين, في عام 1987 توجهت كل الهجرة الفلسطينية تقريباً إلى السويد والدانمارك لأن طريق برلين تعثرت بعد الاتفاق الذي حصل بين الألمانيتين, والذي بدأ تطبيقه في 1/10/1986. وبموجب هذا الاتفاق, تلتزم ألمانيا الشرقية بعدم إعطاء تأشيرة ترانزيت إلى ألمانيا الغربية لمن لا يملك تأشيرة لهذه الأخيرة, وكذلك عقدت السويد اتفاقية مشابهة, وتغلب اللاجئون على هذه العقبة بأن أخذوا يطيرون إلى وارسو, ومن بولونيا يأخذون السفن عبر بحر البلطيق إلى السويد والدانمارك. ونتيجة هذه الإجراءات انخفض عدد الشتاتنلوس عام 1987 إلى 927 شخص, لكن اللاجئون اكتشفوا بسرعة وسيلة جديدة للعودة إلى برلين وهي الحصول على دعوة زيارة من أحد المقيمين في برلين الشرقية للفوز بفيزا إليها, ومنها ينتقلون بدون صعوبة إلى الغربية. وقد استفاد كثير من الطلاب الفلسطينيين والعرب من هذا الوضع, وباعوا دعوات الزيارة للراغبين بها بمبلغ تراوح بين 300 و500 مارك ألماني للدعوة الواحدة. فارتفع العدد عام 1988 إلى 1705, وفي السنة اللاحقة إلى 2315 شخصاً.
في عام 1989 انهارت جمهورية ألمانيا الاشتراكية الديمقراطية وأتت إلى السلطة حكومة انتقالية مهمتها التحضير للوحدة الألمانية, وكانت الرقابة على الحدود ضعيفة, فارتفع العدد إلى 5723 شخصاً. وفي 3 تشرين الأول 1990 تم توحيد ألمانيا واستلمت قوات ألمانية غربية حراسة الحدود الشرقية, ومع الوحدة لم تعد برلين مدينة حدودية وفقدت دورها كطريق رئيسي لدخول اللاجئين إلى ألمانيا. ورغم ذلك أصر البعض على المجيء إلى برلين, فكان يقطع بطاقة سفر عن طريق شركة الإيروفلوت الروسية إلى كوبا, وكان طريق الطائرة بيروت – موسكو, برلين – هافانا. وعندما تحط الطائرة في برلين، كان الشخص الراغب يقدم طلب لجوء سياسي ويبقى في المدينة, ولم يستمر هذا الطريق مفتوحاً لوقت طويل, أما الأغلبية فأصبحت تأتي من طريق بولونيا وتشيكيا, وتقطع الحدود ليلاً عبر الغابات متعرضة لملاحقة حرس الحدود.
وفي عامي 1993 و1994 أبرمت ألمانيا اتفاقات مع كل البلدان المحاذية لها شرقاً وجنوباً تلزم هذه الأخيرة باستعادة اللاجئين المتسللين إلى ألمانيا منها بطريقة غير شرعية, ولم تشمل الاتفاقات بولونيا وتشيكيا فحسب, بل أيضاً سويسرا لأن كثيراً من اللاجئين كان يمر فيها آتياً من إيطاليا وقاصداً ألمانيا. ومن المعروف أنه كان يكفي اللاجئين قول كلمة لجوء (Asyl) على الحدود ليسمح لهم بدخول ألمانيا, فكيف يسمح إذاً لحرس الحدود الآن إعادة غير الشرعيين إلى البلدان المجاورة؟ سبب ذلك هو تعديل المادة 16 من الدستور بتاريخ 28/6/1993 التي تعطي حق اللجوء السياسي, فحسب المادة المعدلة هذه لا يحصل على حق المطالبة باللجوء كل من أتى من بلد آمن, وعُدت جميع البلدان المجاورة لألمانيا بلداناً آمنة, ومن يأتي منها بطريقة غير شرعية يعاد إليها. لذلك بدأ بعض المتسللين بالبقاء بشكل غير شرعي متكلين على مساعدة أقربائهم.
هذا أحد أسباب تطور ظاهرة غير الشرعيين,أما السبب الآخر فهو تطبيق معاهدة شنغن, ابتداءً من عام 1995 والتي تنص على إزالة الحدود الوطنية أمام تنقل الأشخاص ضمن مجموعة دول الوحدة الأوروبية, أي إن باستطاعة كل من يصل إلى بلد أوروبي أن ينتقل بين كل بلدان أوروبا بحرية, وهذا الوضع لا ينطبق على طالبي اللجوء. في معاهدة شنغن, يقع طالب اللجوء تحت مسؤولية البلد الذي يصل إليه أولاً, ولا يحق له مغادرته أو تقديم طلب لجوء جديد في بلد أوروبي آخر, لذلك يضطر الذين يؤمون ألمانيا منذ ذلك الوقت من طريق بلدان الاتحاد الأوروبي الأخرى إلى البقاء بطريقة غير شرعية وحالياً يأتي الكثير من الفلسطينيين من طريق فرنسا إلى ألمانيا لأن بقية الطرق سدت بأغلبها, فالمهاجر من لبنان يقطع بطاقة سفر إلى بلدان أفريقيا الغربية التي تعطيه التأشيرة الضرورية لدخولها, وعندما تحط الطائرة في طريقها إلى أفريقيا في باريس, يغادرها اللاجئون ويبقون في فرنسا ثم ينتقلون إلى ألمانيا أو بريطانيا أو هولندا. وهذه البلدان الثلاثة تشكل الهدف الرئيسي للهجرة الفلسطينية إلى أوروبا حالياً. أما بعد نهاية الحرب الأهلية في لبنان فقد أصبح الوجود الفلسطيني في ألمانيا ذا طابع هجرة وليس لجوءاً, لأن البطالة المنتشرة وخصوصاً التضييق الاقتصادي على الفلسطينيين في لبنان يدفعهم إلى الهجرة لأسباب اقتصادية وليست سياسية.
الوضع الاجتماعي:
إن الذين أتوا في الستينات للعمل أو الدراسة حصلوا على إقامات عادية كبقية الأجانب, وكان العمل متوافراً بكثرة, فجمع قسم منهم بعض المال وعاد إلى بلاده, أما الآخرون فاندمجوا في المجتمع لأن عددهم كان قليلاً ومستوى تعليمهم أعلى من العمال الأتراك مثلاً الذين أقاموا في أحياء خاصة بهم وعزلوا أنفسهم عن المجتمع الألماني. أما وضع الذين أتوا في أواخر الستينات بطريقة غير شرعية فكان عكس ذلك تماماً, فلقد استغلهم أصحاب مكاتب العمل غير الشرعية, وكانت تسمى مكاتب العبيد الذين صادروا 60% من أجورهم واستغلهم مؤجرو السكن. إضافة إلى أنهم لم يكونوا مؤَمنين صحياً واجتماعياً, ولم يستمر هذا الوضع طويلاً بحسب تقديري - من 1968 حتى 1971- لأنهم اكتشفوا في مطلع السبعينات قانون اللجوء السياسي, وكانوا يعتقدون سابقاً أنه يخص فقط اللاجئين من الدول الاشتراكية, فبدأ الجميع بتقديم طلبات اللجوء السياسي. وعندما أغلقت ألمانيا نهائياً باب الهجرة لليد العاملة الأجنبية في تشرين الأول/ من عام 1973 شكل اللجوء السياسي الطريق الوحيد لدخول البلاد ليس فقط للفلسطينيين, بل لجميع الأجانب أيضاً.
أما الفلسطينيون الذين أتوا وقتها فكان أغلبهم من الشباب, وبغياب الضوابط الاجتماعية التي تعودوا عليها في مجتمعهم ومواجهتهم مع مجتمع متقدم يوفر حرية فردية قصوى, ظهرت بعض التصرفات غير المستحبة, بدأت بنشر صور سلبية عن لاجئي لبنان.
كنا ذكرنا سابقاً أن الدوائر الرسمية كانت تعتبر اللاجئين غير اللبنانيين من لبنان فلسطينيين, لكن بالنسبة إلى الرأي العام كانوا جميعاً لبنانيين لأنهم أتوا من لبنان ولم تكن وسائل الإعلام تذكر الفلسطيني أو الكردي المحلمي, بل كانت تسمي الجميع لبنانيين, هذا يعني أن تصرف أي فرد من المجموعات المختلفة كان ينعكس على الجميع.
لم تنظر الثورة الفلسطينية إلى هؤلاء الشباب بعين الرضا واعتبرتهم فارين من ساحات المواجهة, وهي لذلك لم تحاول التأثير فيهم وضبطهم في الغربة. كما إنها نظرت بريبة إلى جميع اللاجئين إلى أوروبا, فاعتبرت وجودهم هناك إضعافاً للصمود وتهديداً لحق العودة, لما يتضمن ذلك من خطر التوطين في الخارج. واستمر هذا الموقف حتى عام 1982, عندما غادرت منظمة التحرير الفلسطينية بيروت, وبعدها أخذ التأثير يضعف تدريجياً.
------------------------------------------------------------------------------
سهل سلوك طريق اللجوء عملية مجيء العائلات, لأنه يحق لطالبي اللجوء الحصول على المساعدات الاجتماعية في حال البطالة من العمل, وحتى الذين لا يكسبون ما يكفي بواسطة عملهم لإعالة عائلة كبيرة, يستطيعون الحصول على مساعدات إضافية من السلطات لسد العجز. وهذا الوضع مضمون لسنوات طويلة. هنا لا بد من كلمة حول قانون اللجوء الألماني وما يميزه عن قوانين بقية العالم , فجمهورية ألمانيا الاتحادية هي الدولة الوحيدة في العالم التي تثبت حق اللجوء السياسي في دستورها كحق أساسي للفرد. هذا يعني أنه يحق للفرد المطالبة بهذا الحق عن طريق القضاء. فعندما يصل المرء إلى الحدود ويقدم طلب اللجوء يكفي عادة أن يقول كلمة (Asyl) فتضطر السلطات إلى إدخاله إلى البلد ليلاحق حقه أمام المحاكم في حال رفض طلبه. وهنا تعامل القضية كأي دعوى إدارية, أي يحق للمعني بالأمر رفع قضيته ضد قرار الرفض ثم الاستئناف وبعدها التوجه إلى المحكمة العليا...
وعندما يخسر كل القضايا ويستلم قرار التسفير يستطيع الاعتراض ورفع دعوى...إلخ. كان البت النهائي بطلب اللجوء يستغرق على هذا الشكل من خمس إلى ثماني سنوات. ينظم حق اللجوء في بلدان العالم الأخرى بقانون يحدد عادة المسار القضائي بشكل مختصر خلافاً لما يحق لبقية المواطنين, فيتم البت بطلبات اللجوء خلال الشهرين حتى ثلاث سنوات كحد أقصى بحسب البلدان المختلفة, وكان طالب اللجوء يتمتع بامتيازات عدة؛ فله حقوق العامل الأجنبي نفسها كحق العمل مثلاً, وله حقوق إضافية كحق أخذ المساعدات الاجتماعية والحصول على سكن من قبل السلطات بينما, العامل الأجنبي يتعرض على العموم للتسفير في حال فقدان عمله ومحاولته أخذ المساعدة من الدولة. وكان العامل التركي مثلاً لا يحق له استحضار عائلته إذا لم يؤمن لها السكن المناسب, وهذا يعني تأمين غرفة سكن لكل فرد من العائلة وهو أمر يصعب على كثير من الأجانب, بينما يحصل اللاجئون على السكن المناسب من قبل السلطات بغض النظر عن حجم عائلاتهم, وفي هذا الشكل كان ممكناً مجيء عائلات كاملة إلى ألمانيا, ازداد عددها بوضوح بعد بداية الحرب الأهلية عام 1975.
لم يؤّدِ مجيء العائلات إلى خلق تجمعات عربية مثلما حصل مع الأتراك, لأن اللاجئين كانوا يوزعون على كل ولايات ألمانيا بحسب نسب معينة يحددها قانون اللجوء, فنسبة برلين مثلاً تساوي 2,4%.
نتج عن ذلك أن كثيراً من العائلات وحتى الأفراد عاش في عزلة ثقافية قصوى؛ مثال على ذلك, عائلة في قرية ألمانية هي العائلة الأجنبية الوحيدة فيها, وقد عوّض من هذه العزلة موقف الألمان الإيجابي تجاهها. فطالما كان عدد اللاجئين قليلاً كان تقبل الألمان لهم عالياً.
ومن الملاحظ أن أبناء العائلات الذين أتوا في السبعينات ونشأوا هنا وأسسوا عائلات بأنفسهم يتمتعون اليوم بقدر عال من الانخراط في المجتمع الألماني إذا ما قارناهم بالذين أتوا في الثمانينات, ولم تكن في نية أغلبية اللاجئين البقاء في ألمانيا, ولم يكن أحداً يعتقد أن الحرب الأهلية ستدوم كل هذا الوقت, لذلك كانت أعداد من الناس تعود إلى لبنان كلما حصل وقف إطلاق للنار اعتقاداً منها أن الحرب قد انتهت, وآخر موجة عودة حصلت عام 1983 وبعدها لم يعد أحد, هذه الظاهرة تقتصر فقط على اللاجئين من لبنان, فاللاجئون من البلدان الاشتراكية لا يستطيعون العودة إليها واللاجئون من سيريلانكا وباكستان وتركيا أتوا ليبقوا ولا ينوون العودة إلى بلادهم. لهذا السبب بدأ السياسيون يتحدثون عن سوء استعمال حق اللجوء ويطالبون بتعديل القوانين, فحصل ذلك عام 1977 في وقت كان عدد اللاجئين الإجمالي في ألمانيا متدنياً جداً؛ إذ بلغ 16410 أشخاص فقط, مما يدل على أن السبب هو في الحقيقة غير ذلك. وفعلاً صدرت قوانين جديدة في 1/8/1978 كانت بداية سلسلة من التنظيمات أدت إلى تفريغ حق اللجوء من مضمونه.
يرجع السبب الحقيقي لطرح حق اللجوء على بساط البحث والمطالبة بتقليصه إلى ظهور لاجئين جدد, لم يكن يحسب لهم حسبان من قبل, هم لاجئو العالم الثالث, فعندما ثبت حق اللجوء في دستور عام 1949 كانت الأنظار موجهة إلى البلدان الاشتراكية, وكانت الحرب الباردة قد بدأت, وبالفعل ألف اللاجئون من هذه البلدان أكثر من 90% من مجمل عدد اللاجئين, واعترف بأغلبيتهم كلاجئين سياسيين, حتى إن الحكومة قررت عام 1966 إعطاء كل من يأتي من البلاد الشرقية إقامة عادية.
عام 1968 بدأ يزداد عدد لاجئي العالم الثالث على حساب عدد الشرقيين فتراجعت نسبة هؤلاء من 89,4% في هذا العام إلى 51,3% عام 1973, ثم 7,8% عام 1980, وشكل لاجئو لبنان في السبعينات أكبر مجموعة بين اللاجئين من العالم الثالث في ألمانيا, لذلك تولد الانطباع وكأنهم السبب في تشديد القوانين, واستمر عدد لاجئي العالم الثالث في الارتفاع وأصبح لاجئو تركيا يحتلون الصدارة, إذ بلغت نسبتهم عام 1980 نحو 53,7% من المجموع العام, وفي هذه السنة تخطى عدد اللاجئين الإجمالي حدود المئة ألف. فدق السياسيون ناقوس الخطر وعملوا على تعديل القوانين مراراً لوقف تدفق اللاجئين, وذلك في أعوام 1980 و1982 و1984 و1987 و1988 و1990 و1992 من دون فائدة, في هذا العام وصل عدد اللاجئين إلى 438191 شخصاً, وعندها تم تعديل المادة 16 في الدستور وقيدت بشروط أفرغتها من مضمونها إلى حد بعيد فتراجع عدد اللاجئين وراوح في التسعينات بين مئة ومئة وثلاثين ألف لاجئ سنوياً.
ويتميز لاجئو لبنان بأنهم ألفوا في ألمانيا أول مجموعة من اللاجئين المصنفين كلاجئي الحرب الأهلية. ولاجئ الحرب الأهلية لا يعترف به كلاجئ سياسي, فهذا بحسب تفسير القضاء الألماني هو الشخص الذي يتعرض للملاحقة من قبل الدولة لأسباب سياسية كأفراد المعارضة مثلاً, لذلك كانت نسبة الذين حصلوا على حق اللجوء من بين لاجئي لبنان متدنية جداً تحت 2 %. ولقد ارتفعت هذه النسبة لفترة قصيرة في ما يخص الفلسطينيين خلال حرب المخيمات, ثم تراجعت بعدها. أما سبب بقائهم وعدم تسفيرهم إلى بلادهم فيعود إلى اتفاقية جنيف حول اللاجئين التي تمنع تسفير أي شخص إلى بلد تكون فيه حياته معرضة للخطر. وهذه المادة أدخلت في القانون الألماني للأجانب, وقد استفاد منها لاجئو لبنان وخصوصاً بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982, فلم يكن يعترف بهم كلاجئين سياسيين لأنهم غير ملاحقين من الدولة, وفي الوقت نفسه كان يسمح لهم في البقاء لأن الحرب الأهلية تهدد حياتهم في حال عودتهم. الفرق بين البقاء في ألمانيا كلاجئ سياسي أو لاجئ حرب أهلية تجلى في نوعية الإقامة. فبينما يحصل الأول على إقامة عادية مع حقوق واسعة, يحصل الأخير على ورقة "دولدنغ" أي تأجيل تنفيذ التسفير مع حقوق محدودة جداً. وفي الثمانينات أصبحت أغلبية لاجئي لبنان, ومنهم الفلسطينيون, يحملون الدولدنغ, فالذين أتوا في هذا الوقت لم يستطيعوا الاستفادة من فوائد وضع اللاجئ التي كانت متوافرة سابقاً لأن القوانين الجديدة منعت ذلك.
في الثمانينات, ساء وضع اللاجئين في ألمانيا بسبب القوانين الجديدة إلى درجة جعلت اللاجئين الجدد يتجنبوها, ودفعت حتى بعض المقيمين فيها إلى مغادرتها إلى بلدان مجاورة. أما سبب إصدار قوانين جديدة فيرجع إلى الاعتقاد السائد في الأوساط السياسية وحتى الشعبية أن اللاجئين من العالم الثالث يأتون لأسباب اقتصادية وليست سياسية فيستغلون حق اللجوء السياسي لدخول البلاد والبقاء فيها. لذلك هدفت القوانين الجديدة من ناحية إلى مكافحة سوء استعمال حق اللجوء بمحاولتها تعقيد سلوك الطريق القانوني ومحاولة اختصاره بقدر المستطاع.
ومن ناحية أخرى هدفت إلى الحد من الهجرة الاقتصادية من خلال القضاء على الجانب الاقتصادي. فباشر المشرع الألماني بإلغاء حق العمل للاجئين لمدة سنة ثم اثنتين ثم خمس سنوات وأرغمهم على السكن في معسكرات خصصت لهم, وحدد المساحة السكنية بأربعة إلى ستة أمتار مربعة للفرد الواحد, وألغى المساعدات المالية ما عدا نقود الجيب, وأصبح يعطي مساعدات عينية كمواد غذائية على نمط الإعاشة المقدمة من الأونروا أو كوجبات طعام جاهزة. وأجبر اللاجئين على تلبية حاجاتهم من مستودعات الدولة للثياب والأثاث العتيق, وألغى أيضاً المساعدات الخاصة بالأولاد. وقلص الرعاية الصحية إلى أدنى الحدود, فمن فقد أسنانه لم يحصل على بديل لها ومن احتاج إلى عملية جراحية غير مستعجلة كقرحة المعدة مثلاً لم تنجز له إلا إذا تفاقمت العوارض وكان على قاب قوسين من الموت, أما أسوأ التنظيمات التي ابتكرها فهي إلغاء التعليم الإجباري وتقليص حجم المساعدات الاجتماعية.
ألغي التعليم الإجباري لأولاد اللاجئين فأصبح التسجيل في المدرسة راجعاً إلى إرادة الأهل الذين أقبلوا رغم ذلك على تسجيل أولادهم بكثافة, كما رافق ذلك عدم تأمين الوسائل الضرورية في المدارس لمعالجة النقص اللغوي والنقص المدرسي الناتج عن ظروف الحرب الأهلية. فلم يعد الأولاد يستطيعون متابعة تعليمهم فيغادرون المدرسة باكراً, بينما كانوا سابقاً ملزمين بالذهاب إليها حتى الصف العاشر.
في بحثي عام 1988 وجدت المعطيات التالية: في أحد أحياء برلين، عدد الأولاد العرب المسجلين في المدارس 334, أما الذين وصلوا إلى الصف العاشر وحصلوا على الشهادة التكميلية, فثلاثة فقط . كانت نتيجة ذلك نشأة جيل كامل لا يملك أدنى الكفاءات الضرورية للعمل والتي هي الشهادة التكميلية, ومحكوم عليه أيضاً بالبقاء في أسفل السلم الاجتماعي, أضف إلى ذلك أنه منع عليهم التعليم المهني والتعليم العالي والجامعي, التنظيم السيئ الآخر هو تخفيض حجم المساعدات الاجتماعية بقدر 22% عن الحجم العادي, فأصبح اللاجئون يعيشون في ضائقة مادية حادة ما دفع الكثير منهم إلى تجاوز القانون بما يخص قضايا الملكية, حتى إن البعض سلك طريق الاتجار بالمخدرات, وكانت نسبة الإجرام الفعلية بين لاجئي لبنان أكبر بكثير من نسبة عددهم لمجمل عدد السكان. وضخمت السلطات هذا الواقع فجعلت من كل ثاني شخص آت من لبنان إنساناً مشتبهاً به, أي إن 50% من الآتين من لبنان هم مجرمون متوقعون مشتبه بأمرهم وهذا رقم قياسي. وأصبح للاجئي لبنان أسوأ سمعة في ألمانيا إلى أن ظهر ألبان من كوسوفو في أواخر الثمانينات ومن بعدهم الغجر والرومان من رومانيا فاختفى اسم لاجئي لبنان تدريجاً من وسائل الإعلام, ولم يعد يُسمع عنهم شيء يذكر في مجال الإجرام.
--------------------------------------------------------------------------------
ألمانيا بلد هجرة:
لا يرجع تحسن سمعة لاجئي لبنان إلى مزاحمة الألبان والرومان بقدر ما يرجع إلى تحسن نوعية إقامتهم, فمع مرور الزمن تحولت قضية اللاجئين من قضية قانونية إلى قضية إنسانية, فهم من جهة لا يحصلون على إقامات عادية بسبب رفض طلبات لجوئهم, ومن جهة أخرى لا يجري تسفيرهم بسبب استمرار الحرب الأهلية, وهكذا يبقون لسنوات طويلة يعيشون في ظل ظروف قاسية ويكبر أولادهم بعيداً عن بلدهم, دون تعلم لغتهم الأم, ما يجعل عودتهم إليه أمراً يتنافى مع القيم الإنسانية, لأنهم أصبحوا غرباء عنه. وقد استنفرت الكنائس والتنظيمات الإنسانية وبعض الأحزاب مطالبة بتحسين هذا الوضع ما جعل السلطات تفكر بإعطائهم إقامات عادية, أول مبادرة في هذا الشأن أتت من ولاية برلين عام 1984, وارتبطت بشروط كثيرة, فاستفاد منها نحو 300 شخص فقط, ولم تحل المشكلة, فتبعتها في أواخر عام 1987 مبادرة أرحب, وقلدت ولايات أخرى مثال برلين حتى صدر قانون الأجانب الجديد عام 1990 الذي تم على أساسه إعطاء إقامات عادية لجميع اللاجئين الذين تواجدوا على الأراضي الألمانية قبل صدوره.مع الحصول على حق الإقامة, بدأ تكّون الجالية الفلسطينية, إذ أصبحت الأغلبية تسكن خارج معسكرات اللاجئين وفتحت أمامها أبواب العمل والتعليم والنشاط الاقتصادي المستقل وأصبح في استطاعتها الانخراط في المجتمع الألماني, وتبين لي في البحث الذي أجريته عام 1995 أن 55% من الفلسطينيين الذي أتوا قبل عام 1990 قد حصلوا على الجنسية الألمانية. هذا التطور الإيجابي قابله غياب شبه تام للتنظيمات الفلسطينية التي لم تستطع بالتالي استيعابه وبلورته في اتجاه خلق جالية فلسطينية لها شكل تنظيمي يعبر عنها, فاتسمت الساحة الفلسطينية بالتشرذم وزادت تشرذمها اتفاقية أوسلو التي أوحت لفلسطينيي لبنان أنهم تركوا لمصيرهم, والأغلبية الساحقة من فلسطيني ألمانيا يأتون من لبنان.
في هذا الوضع حكمت المقاييس التقليدية العلاقات الاجتماعية كالعائلة والقرية والمخيم, ويلاحظ ذلك في أسماء الجمعيات الكثيرة التي نشأت في التسعينات والتي تشير إلى القرى في فلسطين أو المخيمات في لبنان أو حتى العائلة والعشيرة, والتفّ كثير من الناس حول جمعيات دينية لبنانية مثل الأحباش والجماعة الإسلامية, وهذا الالتفاف لا يخدم الوجود الفلسطيني في ألمانيا التي تنظر بحذر إلى هذا النوع من التنظيمات, ومن الملاحظ أنه في غياب دور المنظمات الفلسطينية يحصل التحرك الفلسطيني في ألمانيا في الدائرة اللبنانية, فعلاقاتهم الاجتماعية مع اللاجئين من لبنان واللبنانيين أوثق من علاقتهم مع فلسطينيي فلسطين والدول العربية الأخرى, وهذا ما يفسر التفافهم حول جمعيات إسلامية لبنانية بدل غيرها, فلم تستطيع حركة المقاومة الإسلامية" فلسطين" (حماس) استقطابهم, إذ إن مناصريها يأتون بشكل أساسي من غزة والضفة والأردن.في النصف الثاني من التسعينات ظهرت الحاجة أخيراً إلى خلق كيان فلسطيني مستقل يعبر فعلاً عن الوجود الفلسطيني الذي أصبح متعدد الوجوه, إذ بدأت عملية التمايز الاجتماعي تفرز تدريجياً شرائح اجتماعية جديدة, فبينما كانت الأغلبية الساحقة خاضعة سابقاً لأحكام اللجوء التي فرضت ظرفاً معيشياً موحداً على الجميع, أخذت الآن تظهر فئات مثقفين وأرباب مصالح حرة ورجال أعمال, إضافة إلى العمال. رغم كون نسبة البطالة لم تزل عالية جداً إذ تتجاوز ال 70% بينما تبلغ 28% بين الأتراك و10% على مستوى ألمانيا, وهذه الفئات تطمح إلى تمثيل جماعتها, وتشكل العنصر المحرك لبناء الجالية.
وتأسست عام 1996, جمعيتان تحملان اسم الجالية الفلسطينية عبرتا عن العلاقات الجديدة برغبتها تمثيل كل الجالية وتخطي العلاقات التقليدية, لكنهما لم تستطيعا القضاء على التشرذم نظراً إلى ضعف التمايز الاجتماعي وقتها. ويبدو أن هذا الأخير نضج بعض الشيء عام 2000, إذ حصلت محاولة جديدة استقطبت عدداً كبيراً من الجمعيات حتى الآن, ما يجعل إمكان جمع الجالية الفلسطينية في إطار تنظيمي موحد أمراً متوقعاً, وخصوصاً إذا أخذنا في الحسبان أن دور التنظيمات السياسية في هذه العملية ثانوي, مقابلة بدور النخب المحلية الناشئة, وهذا التطور يجعل الجالية الفلسطينية في ألمانيا تسير على خطى مثيلاتها في الولايات المتحدة وكندا وغيرها من بلدان الشتات