د. عادل محمد عايش الأسطل
يجدر بنا تذكّر أيام العراق الخالية يوم أن كان خلالها قوةً كبرى، تُمثل درعاً واقياً للأمتين العربية والإسلامية، ومصدر تهديد حقيقي لإسرائيل وأعوانها، قبل أن نقوم بذكر كم من القوى المتكالبة الآن التي تجِدُّ في نخره بلا هوادة ومن كل جانب، حتى بات أضعف ما يكون.
منذ أن قامت الولايات المتحدة بغزو ترابه في أوائل 2003، كانت ترمي بالدرجة الأولى إلى شطبه سياسياً وعسكرياً، ثم ليكون تابعاً مفيداً ومطيعاً ليس إلاّ، وكلّنا يعلم بسلسلة الإجراءات الأمريكية والحليفة التي اتبعتها منذ بداية الغزو وإلى الآن، للوصول إلى هذه المرحلة القاسية والتي لم تنتهِ بعد.
فبموازاة قيامها بتقويض أركانه ومؤسساته، ومحو قوّته بأسلحتها وعتادها، قامت بتهديمه وبصورةٍ أشد وبخبثٍ أكبر، من خلال تركيزها على فسخ النسيج الاجتماعي، بإمعانها في نشر ثقافة الفتنة وترسيخ كراهية الغير، وإفساحها المجال للكل في الداخل والخارج، ليباشر نشاطاته العدوانية ضد العراق أرضاً وشعباً ومقدّسات، وكان الانسحاب الصوري الذي أتمّته أواخر 2011، هو الأساس باتجاه أن لا يستمر على ما كان.
فبقدر النشاطات السياسية التي نشأت عن الدولة فيما بعد، والتي تهدف إلى ترقيع الحياة العراقية بجملتها، بقدر النشاطات التخريبية المختلفة، التي كانت تُمارس ضد هذا الترقيع، من قِبل جماعات وحركات وأحزاب وملل وطوائف أخرى مدفوعة، التي كان لها تحت سمع وبصر دوليّين، إمكانية هدم البقية الباقية من مكونات العراق ومقدراته.
كما كذب على الكل الرئيس الأمريكي “جورج بوش الإبن” إمعاناً وترسيخاً لكذب أبيه من قبل، من أنه سيجعل العراق أنموذجاً ديمقراطياً يُحتذى به، حين جعله ألعوبة على مدار فترتين من حكمه، بين أجهزته العسكرية والمخابراتية ومؤسسة الموساد الإسرائيلي وجهات أخرى، لتعيث به فساداً وتخريباً، بدءاً باستنهاض أصول الكراهية والفتن من جانب، وإطلاق عصابات وفئات تابعة ما لها من وزن من جانبٍ آخر، فقد كذب علينا الرئيس اللاحق “باراك أوباما” أيضاً على مدار فترتين متتاليتين، حينما أوحى إلينا بأنه مسؤول أخلاقياً عن إعادة العراق إلى ما كان عليه، قبل ومنذ لحظة اندحار جيشه من التراب العراقي، لأن الذي حدث هو العكس، حيث استمرت على وتيرتها أنشطة العنف الدامية، وتعالت إلى الأعلى ألسنة الفتن بدعوى الفئوية والطائفية، حتى بدا العراق وكأنّه اعتاد رؤية الدم واشتمام رائحة البارود، والتي تنتشر إلى يومنا هذا، حيث قُتل آلاف الناس وهربوا في كل اتجاه.
مشاهد العنف والفوضى في الأنحاء لا تكاد تهدأ لحظة واحدة، والإدارة في واشنطن لا تكاد تفعل شيئاً ولا تريد أن تفعل، منذ الماضي وإلى الآن، على الرغم من تفاقم الأوضاع العسكرية، وانهيار الجيش العراقي أمام سيطرة ما يسمى، بالدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، على أجزاء كبيرة من المدن العراقية – محافظة نينوى -، ما حدا بإقدام جهات في أنحاء عراقية متفرقة بالسيطرة على مناطق مختلفة، وأخرى كانت خاضعة لاتفاقات حكومية خاصة، بحجة الدفاع عنها في مواجهة داعش الزاحفة، مثلما حصل وأقدمت البشمركة الكردية على فرض سيطرتها ولأول مرة، على منطقة كركوك، – المتنازع عليها بين العرب والأكراد – في سابقة خطيرة قد تمهّد الطريق أمام انفصالها عن المركز.
اضطر الرئيس الأمريكي “أوباما” إلى التفوّه – على استحياء- بضرورة القيام بعمل عسكري للحيلولة دون تفاقم الأوضاع القائمة، لكن واقعه يميل إلى الهروب تماماً أمام الأزمة، حتى هذه الأثناء على الأقل، بسبب أن أيّة تدخلات عسكريّة أمريكية تتوجب فقط، عند تهديد المصالح الحيوية والمرتبطة بالأمن القومي الأمريكي. وكان البيت الأبيض قد أكّد في أوقات سابقة، بأن التدخل العسكري غير وارد، وأن لا خطط متوقعة لديه برغم التمددات الدّاعشية داخل المدن العراقية، والتي تتم على حساب نظام الحكم الذي كابدت واشنطن في إنشاءه وداومت الحرص على دعمه واستمراره، خاصةً في ظل وجود قرابة 35 ألف جندي في منطقة الشرق الأوسط، ومن بينهم 10 آلاف داخل الكويت بمحاذاة الحدود، وليس هذا وحسب، بل أبدى معارضته لإرسال طائرات مُسيّرة للمساهمة دون تدهور الأوضاع، كما هو حاصل في مناطق متفرقة من العالم (أفغانستان، باكستان، الصومال، اليمن، ومناطق أخرى)، مكتفياً بالإعلان عن دعم الحكومة العراقية بمعدات وأسلحة عسكرية فقط، ما يُثير علامات تعجب واستفهام متعددة، مع العلم بأن هذه الأسلحة، ليست مرتبطة بالوضع العسكري القائم، وإنما بحسب اتفاقيات سابقة.
العراق اليوم، هو مسؤول بالدرجة الأولى من رئيس الوزراء القديم – الجديد “نوري المالكي” على الرغم من تواجده بين المطرقة المحلية والسندان الأمريكي، فكما كان محل اتهام لدى الكثيرين في الداخل بأنه يعمل على التمييز ضد السنّة واضطهادهم، وباتهام إدارته بأنها هي من أوصلت الأمور إلى هذا المنحنى الخطير، فهو لدى الأمريكيين – كما يبدو- شخصية لا تستوجب المساعدة.
على أيّ حال، وبغض النظر عن الموقف الأمريكي، وسواء بالنسبة للعراق ككل أو بالنسبة إلى “المالكي” على نحوٍ خاص، فإن العراق لا يحتاج إلى تدخلات عسكرية وسياسة أمريكية، بل هو في حاجة إلى أهله كافة (سنّة وشيعة، كرد وتركمان، وآخرين) كونهم وحدهم يستطيعون فكاك العراق من القرار الخارجي، والأخذ به عن أيّة صلةٍ بفكرٍ مُخالف، أو تصوّرات طائفية مقيتة، وإنقاذه ممّا يُحاق به من المكر.
الهروب الأمريكي الكبير من العراق !
المزيد ..
http://www.mepanorama.net